يمكننا أن نجمل النصيحة في منهجية طلب علوم الحديث الشريف بالأمور الآتية :
أولاً :
العناية
التامة بحفظ متون السنة النبوية ، إذ هي الغاية والثمرة التي نصب العلماء
لأجلها علوم الحديث جميعها ، فلا يجوز لطالب العلم أن ينشغل بالوسيلة عن
الغاية .
وحفظ متون السنة النبوية يبدأ بحفظ الأحاديث المتفق عليها بين
الصحيحين ، ثم حفظ ما انفرد به البخاري ، ثم حفظ ما انفرد به مسلم ، لتنتهي
بذلك المرحلة الأولى الأهم في تكوين العقلية الحديثية لدى طالب علم الحديث
.
وينتقل بعدها إلى حفظ زوائد الكتب الستة والمسانيد المشهورة على
أحاديث الصحيحين ، ويستعين عليها بالكتب الكثيرة التي اعتنت بجمع هذه
الزوائد وترتيبها .
وأفضل طرق الحفظ تكرار المحفوظ على مدى أيام عدة بعد اليوم الذي حفظ فيه ، وهي الطريقة التي نصح بها الزرنوجي رحمه الله حين قال :
"
ينبغي لطالب العلم أن يعد ويقدر لنفسه تقديراً في التكرار ، فإنه لا يستقر
قلبه حتى يبلغ ذلك المبلغ ، وينبغي أن يكرر سبق الأمس – يعني ما حفظه
بالأمس - خمس مرات ، وسبق اليوم الذي قبل الأمس أربع مرات ، والسبق الذي
قبله ثلاث ، والذي قبله اثنين ، والذي قبله واحد ، فهذا أدعى إلى الحفظ
والتكرار" انتهى.
"تعليم المتعلم" (ص/60)
فإن لم يتمكن الطالب من
الحفظ التام فلا أقل من الاستكثار من قراءة هذه الأحاديث حتى يستحضرها
الذهن ، ويستوعبها القلب ، ويسهل تذكرها على الذاكرة .
وقد سبق التفصيل في هذا الموضوع في جواب السؤال رقم : (
113469)
ثانياً :
لا
بد أن يهتم طالب علم الحديث بحفظ مدارات الأسانيد وما استطاع من أسماء
الرواة وتراجمهم ، فأسانيد السنة النبوية تنقسم – من حيث شهرتها – إلى
ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أسانيد أساسية ، تروى بالإسناد الواحد منها
مئات الأحاديث ، وتعتبر ركيزة من الركائز التي نقلت إلينا السنة النبوية ،
بل ليس من كتب السنة كتاب إلا وهو معتمد عليها ، ومكثر منها ، وذلك :
كإسناد : الأعمش ، عن ذكوان أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة .
وإسناد : الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة .
وإسناد : حماد بن سلمة ، عن ثابت بن أسلم ، عن أنس .
وإسناد : عبيد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر .
ويمكن استخراج هذه السلاسل الإسنادية التي تروى بها مئات الروايات من خلال كتاب " تحفة الأشراف " للإمام المزي .
كما
يمكن الاستعانة بحفظ رواتها ورجالها بكتاب : " طبقات المكثرين من رواية
الحديث "، تأليف الشيخ : عادل الزرقي . وتقديم العلامة : عبد الله السعد .
طبعته : دار طويق .
فإذا اعتنى طالب علم الحديث بهذه الأسانيد وحفظها ،
ثم بدأ بتنزيل هذه الأسانيد على المتون التي سبق له حفظها من كتب السنة :
فقد استودع في قلبه بذلك مئات الأحاديث بأسانيدها ، وبدأ بذلك مرحلة جديدة
من التمكن الأصيل في هذا العلم الشريف .
القسم الثاني : أسانيد أقل
شهرة ، تروى بها عشرات الروايات ، ولكنها تشتمل على بعض الإشكالات المشهورة
، كالانقطاع ، أو التدليس ، أو الإرسال ، ونحو ذلك ، ويمكن الاطلاع على
بعض هذه الأسانيد في كتاب : " تحفة التحصيل " للعلائي .
فإذا اعتنى طالب العلم بهذه الأسانيد أيضاً ، واستظهر إشكالاتها الحديثية : فقد قطع شوطاً كبيراً في التمكن من هذا الفن .
وأما
القسم الثالث : فهي أسانيد الأحاديث الموضوعة والضعيفة ، التي رويت بها
أحاديث كثيرة أيضاً ، فهي أيضا مما لا بد من عناية طالب العلم بها ، إذ
يقبح بالمتخصص أن يخفى عليه ما اشتهر بين علماء الحديث بالضعف والنكارة أو
الوضع ، ولتحقيق ذلك لا بد من إدمان القراءة في كتاب : " ميزان الاعتدال "
للإمام الذهبي ، وكتاب : " الكامل في ضعفاء الرجال " لابن عدي ، وكتاب : "
الموضوعات " لابن الجوزي .
ثالثاً :
فإذا قطع طالب علم السنة النبوية شوطا كبيرا في
حفظ متون السنة واستظهارها : شرع بعد ذلك في استشراح تلك المتون ، ومعرفة
غريبها وأوجه تفسيرها ، وقد قال الخطيب البغدادي رحمه الله : " العلم هو
الفهم والدراية ، وليس بالإكثار والتوسع في الرواية " انتهى. " الجامع
لأخلاق الراوي " (ص/174)
ولكن يجب أن يتنبه طالب العلم إلى ضرورة
الاقتصار – في بداية الطلب - على الشرح المختصر الذي يحل الغريب ، ولا يطول
في بيان المسائل الفقهية والعلمية ، فذلك أمر يطول على الطالب ، ويتشعب به
إلى أودية قد لا يحسن الخروج منها ، فحبذا لو قرأ شرحاً مختصراً ، ككتاب "
المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم " للإمام القرطبي ، وكتاب " المنهاج
شرح صحيح مسلم بن الحجاج " للإمام النووي ، فيلخص معنى الحديث وشرح مفرداته
من هذه الكتب على نسخته الخاصة التي حفظ منها الحديث نفسه ، حتى إذا ما
راجع محفوظه من السنة النبوية رافق ذلك الاطلاع على توضيحٍ مختصرٍ للحديث ،
فجمع بين فضيلتين .
أما العناية بالمسائل الفقهية المستنبطة من الحديث
فذلك شأن آخر ، لا ينبغي تأصيله من كتب شروح الحديث ، وإنما من كتب الفقه
التي ترتب مسائل الفقه على طريقة الأصول والفروع المبنية على واحد من
المذاهب الأربعة .
رابعاً :
في علوم " مصطلح الحديث " ننصح طالب العلم أن
يعتني بكتاب : " تحرير علوم الحديث " للشيخ عبد الله الجديع ، قراءة ،
ومدارسة ، وحفظاً لمسائله ، فهو كتاب رائد في بابه ، تميز بتأصيل علوم
الحديث من خلال الواقع العملي لمسالك النقاد ، ومن خلال استقراء جميع
التأصيلات النظرية الواردة في كتب العلل والتراجم ، فضلاً عن كتب مصطلح
الحديث الأخرى .
فإن طال الكتاب على الطالب ، أو كان مبتدئاً في الطلب :
اقتصر على " نزهة النظر شرح نخبة الفكر " للحافظ ابن حجر ، أو عمل تلخيصاً
لكتاب الشيخ عبد الله الجديع ، واعتنى بهذا الملخص ، حتى إذا ما أتقنه
انطلق يتوسع في قراءة الكتب الأخرى ، وأهمها : " النكت على ابن الصلاح "
للحافظ ابن حجر ، و" فتح المغيث " للحافظ السخاوي .
خامساً :
لا بد من حصص كافية من القراءة في نوعين آخرين من الكتب :
النوع
الأول : كتب العلل والتخريج التي هي بمثابة التطبيق العملي لعلوم الحديث
الشريف ، فيطلع الطالب من خلالها على نماذج واسعة من الأحكام الحديثية
والفوائد الإسنادية ، فتنفتح له آفاق البحث والنظر .
النوع الثاني :
الدراسات المعاصرة للمتخصصين في فنون الحديث الشريف ، مثل كتب العلامة عبد
الرحمن المعلمي رحمه الله ، وكذلك الرسائل العلمية المتخصصة ، ونحن نعيش
اليوم – بحمد الله – نهضة علمية حديثية لا تكاد تجد لها نظيراً في العصور
المتأخرة من تاريخ العلم الشرعي ، وكثير من هذه الدراسات تشتمل على مناقشات
علمية متمكنة ، ومباحثات مهمة في مسائل ضرورية ، لا ينبغي لطالب علم
الحديث أن يقصر نظره عنها ، أو يعزب فكره عن العناية بها ، وسيجد أنه
بقراءته في هذه الدراسات المعاصرة سيزيد من رصيد تمكنه ، وتتوسع مداركه ،
وتنقدح في ذهنه الكثير من المباحث التي تحتاج إلى دراسة وتأمل ، فلعله
يساهم في تحقيق ذلك .
وقبل ذلك كله تذكير النفس بتقوى الله تعالى ، فهي غاية كل
العلوم ، ومن اشتغل بالعلم عن العمل فقد ضل وهلك ، بل الواجب أن يُرى أثر
العلم في تخشع المتعلم وتواضعه واشتهار خلقه وأدبه بين الناس .
عن الحسن البصري رحمه الله قال :
" كان الرجل يطلب العلم ، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه ويده " انتهى.
" الزهد " لعبد الله بن المبارك (رقم/79)
ويقول ابن الصلاح رحمه الله :
"
من أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه : فليقدم تصحيح
النية وإخلاصها ، وليطهر قلبه من الأغراض الدنيوية وأدناسها ، وليحذر بلية
حب الرئاسة ورعوناتها " انتهى.
" علوم الحديث " (ص/213)
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب